فصل: مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر في الأصول وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة كما هنا فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح والدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة للإحتياط في البراءة من عهدة الطلب وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله:
وناقل ومثبت والآمر ** بعد النواهي ثم هذا الاخر

على إباحة إلخ.
فإن معنى قوله: «والأمر بعد النواهي» أن ما دل على الأمر بعد ما دل على النهي فالدال على النهي هو المقدم وقوله: «ثم هذا الآخر على إباحة» يعني أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة كما ذكرنا فتحصل أن الأول النهي فالأمر فالإباحة فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير الله على إباحة طعام أهل الكتاب.
واعلم أن العلماء اختلفوا فيها حرم على أهل الكتاب كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم لأن الذكاة لا تتجزأ وكرهه مالك ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر وإيضاح ذلك أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قالوا المحرم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في صحيح البخاري من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه على أخذ جرابًا من شحم اليهود يوم خيبر وبما رواه الإمام أحمد ابن حنبل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز وشعير وإهالة سنخة أي ودك متغير الريح وبقصة الشاه المسمومة التي سمتها اليهودية له صلى الله عليه وسلم ونهش ذراعها ومات منها بشر بن البراء بن معرور وهي مشهورة صحيحة قالوا أنه صلى الله عليه وسلم عزم على أكلها هو ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
ونزلن ترك الاستفصال ** منزلة العموم في المقال

والذي يظهر لمقيدة عفا الله عنه أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك أما حديث عبد الله بن مغفل وحديث أنس رضي الله عنهما فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم ومطلق الشحم ليس حرامًا عليهم بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فما في الحديثين أعم من محل النزاع والدليل على الأعم ليس دليلًا على الأخص لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجب وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
والقول بالموجب قدحه جلا ** وهو تسليم الدليل مسجلا

من مانع أن الدليل استلزما ** لما من الصور فيه اختصما

أما القول بالموجب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي وهو ضربان معروفان في علم البلاغة وقصدنا هنا القول بالموجب بالاصطلاح الأصولي لا البياني وأما تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفي أنه لا دليل فيه لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر بعينه ولا يخفي علية شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم كما هو ضروري فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر وأجرى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور الكراهة التنزيهية لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه والذكاة لا يظهر تجزؤها فحكم المسألة مشتبه ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وأما البحث الثاني: وهو الجمع بين قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله ولا اسم غيره فحاصله أن في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وجهين من التفسير أحدهما وإليه ذهب الشافعي وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله وعلى هذا التفسير فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لاشيء آخر.
الوجه الثاني: أنها على ظاهرها وعليه فبين الآيتين أيضًا عموم وخصوص من وجه تتفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم الله فهو حلال بلا نزاع وتنفرد آية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم الله عليه فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع وما ذبحه المسلم من غير تسمية يأتي حكمه إن شاء الله ويجتمعان فيما ذبحه كتابي ولم يسم الله عليه فيتعارضان فيه فيدل عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على الإباحة ويدل عموم {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} على التحريم فيصار إلى الترجيح كما قدمنا واختلف في هذين العمومين أيضًا أيهما أرجح فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية وقال بعضهم بترجيح عموم {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال النووي في شرح المهذب: «ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا لظاهر القرآن العزيز هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وحكاه ابن المنذر عن علي والنخعي وحماد بن سليمان وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم فإن ذبحوا على صنم أو غيره لم يحل» انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وحكى النووي القول الآخر عن علي أيضًا وأبي ثور وعائشة وابن عمر.
قال مقيدة عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن لعموم كل من الآيتين مرجحًا وأن مرجح آية التحليل أقوى بالاعتبار أما آية التحليل فيرجح عمومها بأمرين:
الأول: أنها أقل تخصيصًا وآية التحريم أكثر تخصيصًا لأن الشافعي ومن وافقه خصصوها بما ذبح لغير الله وخصصها الجمهور بما تركت فيه التسمية عمدًا قائلين أن تركها نسيانًا لا أثر له وآية التحليل ليس فيها من التخصيص غير صورة النزاع إلا تخصيص واحد وهو ما قدمنا من أنها مخصوصة بما لم يذكر عليه اسم غير الله على القول الصحيح وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصًا مقدم على الأكثر تخصيصًا كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله وعلى هذا جمهور الأصوليين وخالف فيه السبكي والصفي الهندي وبيّن صاحب نشر البنود في شرح مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروى في شرح قوله:
تقديم ما خص على ما لم يخص ** وعكسه كل أتى عليه نص

أن الأقل تخصيصًا مقدم على الأكثر تخصيصًا وأن ما لم يدخله التخصيص مقدم على ما دخله عند جماهير الأصوليين وأنه لم يخالف فيه إلا السبكى وصفي الدين الهندي.
والثاني: ما نقله ابن جرير ونقله عنه ابن كثير عن عكرمة والحسن البصري ومكحول أن آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ناسخة لآية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال ابن جرير وابن كثير أن مرادهم بالنسخ التخصيص ولكنا قدمنا أن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ لأن التخصيص بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل.
ويدل لهذا أن آية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} من سورة الأنعام وهي مكية بالإجماع وآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة.
وأما آية التحريم فيرجع عمومها بما قدمنا من مرجحات قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لأن كلتاهما دلت على نهي يظهر تعارضه مع إباحة وحاصل هذه المسألة أن ذبيحة الكتابي لها خمس حالات لا سادسة لها.
الأولى: أن يعلم أنه سمى الله عليها وهذه تؤكل بلا نزاع ولا عبرة بخلاف الشيعة في ذلك لأنهم لا يعتد بهم في الإجماع.
الثانية: أن يعلم أنه أهل بها لغير لله ففيها خلاف وقد قدمنا أن التحقيق أنها لا تؤكل لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ}.
الثالثة: أن يعلم أنه جمع بين اسم الله واسم غيره وظاهر النصوص أنها لا تؤكل أيضًا لدخولها فيما أهل لغير الله.
الرابعة: أن يعلم أنه سكت ولم يسم الله ولا غيره فالجمهور على الإباحة وهو الحق والبعض على التحريم كما تقدم.
الخامسة: أن يجهل الأمر لكونه ذبح حالة انفراده فتؤكل على ما عليه جمهور العلماء وهو الحق إن لم يعرف الكتابي بأكل الميتة كالذي يسل عنق الدجاجة بيده فإن عرف بأكل الميتة لم يؤكل ما غاب عليه عند بعض العلماء وهو مذهب مالك ويجوز أكله عند البعض بل قال ابن العربي المالكي: «إذا عايناه يسل العنق الدجاجة بيده فلنا الأكل منها لأنها من طعامه والله أباح لنا طعامه» واستبعده ابن عبد السلام قال مقيده عفا الله عنه: هو جدير بالاستبعاد فكما أن نسائهم يجوز نكاحهن ولا تجوز مجامعتهن في الحيض فكذلك طعامهم يجوز لنا من غير إباحة الميتة لأن غاية الأمر أن ذكاة الكتابي تحل مذكاة كذكاة المسلم وما وعدنا به من ذكر الحكم ما ذبحه المسلم ولم يسم الله عليه فحاصله أن فيه ثلاثة أقوال.
أرجحها وهو مذهب الجمهور أنه إن ترك التسمية عمدًا لم تؤكل لعموم قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وإن تركها نسيانًا أكلت لأنه لو تذكر لسمّى الله.
قال ابن جرير: «من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول الحجة وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال ابن كثير: «أن بن جرير يعني بذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله» ثم قال ابن كثير: أن رفع هذا الحديث خطأ أخطأ فيه بن عبيد الله الجزري والصواب وقفه على بن عباس كما رواه بذلك سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي ومما استدل به البعض على أكل ذبيحة الناسي للتسمية دلالة الكتاب والسنة والإجماع على العذر بالنسيان ومما استدل به البعض لذلك حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله رأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم» ذكر ابن كثير هذا الحديث وضعفه بأن في إسناده مروان بن سالم أبا عبد الله الشامي وهو ضعيف.
القول الثاني: أن ذبيحة المسلم تؤكل ولو ترك التسمية عمدًا وهو مذهب الشافعي رحمه الله كما تقدم لأنه يرى أنه ما لم يذكر اسم الله عليه يراد به ما أهل به لغير الله لا شيء آخر وقد ادعى بعضهم انعقاد الإجماع قبل الشافعي عل أن متروك التسمية عمدًا لا يؤكل ولذلك قال أبو يوسف وغيره: «لو حكم الحاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفته الإجماع» واستغرب ابن كثير حكاية الإجماع على ذلك قائلًا: «إن الخلاف فيه قبل الشافعي معروف».
القول الثالث: أن المسلم إذا لم يسم على ذبيحته لا تؤكل مطلقًا تركها عمدًا أو نسيانًا وهو مذهب داود الظاهري وقال ابن كثير: «ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسيانًا والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرًا» ثم ذكر ابن كثير أن ابن جرير لا يعتبر مخالفة الواحد أو الاثنين للجمهور فيعده إجماعًا مع مخالفة الواحد أو الاثنين ولذلك حكى الإجماع على أكل متروك التسمية نسيانًا مع أنه نقل خلاف ذلك عن الشعبي وابن سيرين.

.مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث:

.المسألة الأولى: [الذبح لصنم أو كنيسة ونحوهما]:

اعلم أن كثيرًا من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل أو لكنائسهم قائلين أن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني فمكروه عندهم كراهة تنزيه مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}.
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن الكريم لأن الذبح على وجه القربة عبادة بالإجماع فقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} الآية فمن صرف شيئًا من ذلك لغير الله فقد جعله شريكًا مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح سواء كان نبيًا أو ملكًا أو بناءً أو شجرًا أو حجرً أو غير ذلك لا فرق في ذلك بين صالح وطالح كما نص عليه تعالى بقوله: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا} ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}.